مناظرة بين الليل والنهار
لما اسفر النهار عن بياض الغرة قابله الليل بسواد الطرة ثم صار الهزل جدا واشتد النزاع بينهما جدا فاستنجد كل منهما اميره، وافشى له سره وضميره واذا بالليل حمل على النهار فصبغ حمرة وردته بصفرة البهار وخطر يجر ذيول تيهه وعجبه مرصعا تيجان مفاخره بدرر شبهه ثم قال: (والليل اذا يغشى) (ان في ذلك لعبرة لمن يخشى) ففتح باب المناقشة في هذا الفصل وعقد اسباب المنافسة بقوله الفصل (فان الحرب اولها كلام) ثم تنجلي عن قتيل او اسير بكلام.
ولما بلغ الليل غايته بزغ الفجر ورفع رايته وقال اذ جال في معترك المنايا (انا ابن جلا وطلاع الثنايا) فتقدم في ذلك المكان وجلى تاليا قوله تعالى (والنهار اذا تجلى) ثم استوى على عرش السنا والسناء واطلع شموس طلعته في الارض والسماء فاعرب عن غوامض الرقائق والحقائق واغرب في نشر ما انطوى من الاسرار والدقائق وما انحدر من منبره حتى ايد دعوى خبره بشاهد مخبره فانتدب اليه (الليل) ومال عليه كل الميل وقال: احمد من جعلني خلوة للاحباب وجلوة لعرائس العرفان ونفائس الآداب وخلقني مثوى لراحة العباد ومأوى لخاصة النساك والعباد ولله در من قال فاجاد:
ايها الليل طل بغير جناح
ليس للعين راحة في الصباح
كيف لا ابغض الصباح وفيه
بأن عنى نور الوجوه الصباح
اتردد على ارباب المجاهدة بفنون الغرائب واتودد الى اصحاب المشاهدة بعيون الرغائب تدور في ساحتهم بدور الحسن والبهاء وتدار من راحتهم كؤوس الانس والهناء فتحييهم نغمات السمر وتحييهم نسمات السحر فاحيان وصلى بالتهاني مقمرة وافنان فضلى بالاماني مثمرة وحسبي كرامة انى للناس خير لباس اقيهم بلطف الايناس من كل باس ومن واصل الادلاج وهجر طيب الكرى قيل له (عند الصباح يحمد القوم السرى).
وما الليل الا للمجد مطية
وميدان سبق فاستبق تبلغ المنى
ففتن بمعاني بيانه البديع وتفنن في افانين التصريع والترصيع ثم اتم خطبته بالتماس المغفرة والعفو واستعاذ بالله من دواهي الغفلة ودواعي اللهو فوثب اليه (النهار) وصال عليه صولة ملك قهار وصعد على منبره ثانيا وقد اضحى التيه لعطفه ثانيا فاثنى على من جلا ظلمة الحجاب وتجلى له باسمه النور وتوجه بسورة من الكتاب وزانه بابهى سراج وهاج فاوضح بسناه السبيل والمنهاج ثم صاح: ايها الليل هلا قصرت من اعجابك الذيل؟ ولئن دارت رحى الحرب واستعرت نار الطعن والضرب فلأسبين مخدراتك وهي عن الوجوه حاسرة وانت تتلو يومئذ (تلك اذا كرة خاسرة) فما دعاك الى حلبة المفاضلة؟ وما دهاك حتى عرضت بنفسك للمناضلة؟! وهل دأبك الا الخداع والمكر؟! وترقب الفرصة وانت داخل الوكر؟ اما حض القرآن على التعوذ برب الفلق وندب (من شر ما خلق ومن شر غاسق اذا وقب) فبربي يستعاذ من شرك ويستعان على صنوف صروف غدرك وهب انك تجمع المحب بالحبيب اذا جار عليه الهوى وحار الطبيب فكم يقاسى منك في هاجرة ويئن انين الثكلى حتى مطلع الفجر؟!
يبيت كما بات السليم مسهدا
وفي قلبه نار يشب لها وقدا
فيساهر النجوم ويساور الوجوم وقد هاجت لواعج غرامه وتحركت
سواكن وجده وهيامه فانشد وزفيره يتصعد:
اقضى نهارى بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهارى نهار الناس حتى اذا بدا
لي الليل هزتني اليك المضاجع
على ان العاشق الوله يشكو منك في جميع احواله فكم قطع آناءك بمواصلة انينه متململا من فرط شوقه وحنينه فلما ان حظى بالوصال تمثل بقول من قال:
الليل ان واصلت كالليل ان هجرت
اشكو من الطول ما اشكو من القصر
ولئن افتخرت ببدرك الباهر الباهي فانما تبارى ببعض انوارى وتباهى وهل للبدر عند اشراق الشمس من نور؟ او لطلعة حسنه من خدور البطون ظهور! ومن ادعى انك تساويني في الفضل والقدر! او زعم ان الشمس تقتبس من مشكاة البدر! ومتى استمدت الاصول من الفروع (وما اغنى الشموس عن الشموع) فبي تنجلى محاسن المظاهر الكونية وتتحلى بجواهر الاعراض اللونية او يخفى حسنى وجمالي على مشاهد؟ او يفتقر فضلى وكمالى الى شاهد! وعرضي عار من العار وجميع الحسن من ضيائي مستعار!
وليس يصح في الاذهان شيء
اذا احتاج النهار الى دليل
اما كفاك بينة وزادك ذكرى او تبصرة قوله تعالى: (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) و(هل يستوي الاعمى والبصير).
.............................. ...............